لطالما شكلت المطالب المعيشية في لبنان مادة للنكايات السياسية ليس إلا. وكثيراً ما ارتضت الحركة النقابية اللبنانية التي كان الاتحاد العمالي العام يشكل فصيلها الأبرز، أن تتحول إلى ما يشبه الأداة في يد قوى سياسية تستخدمها ساعة تشاء، وتلوك خطابها المطلبي، قبل أن تتخلى عنها وعن المطالب التي رفعتها، عند أول فرصة.
ولهذه العلاقة القاتلة أكثر من سبب لعل أبرزها سياسة الإضعاف الممنهج الذي تعرضت له الحركة النقابية على يد الوصاية السورية والطقم السياسي اللبناني الحليف لها، وفقاً لتقسيم العمل الأخوي بين "المقاومة" و"الإعمار".
والواقع أن تقسيم العمل هذا جعل من الرئيس المغدور رفيق الحريري عنوان النسخة اللبنانية لسياسات النهب المنظم التي تم تكييفها مع الواقع الطائفي في البلاد. وهو تقسيم عاد السيد حسن نصر الله ومد يده للحريري الابن لاستئناف العمل به. غير أن زوال دور الشقيق الأكبر كمدير لمشروع التقاسم هذا، ودخول الطائفتين الكبريين في لبنان في صراع على وراثة دور الطائفة المهيمنة، حالا دون تحقيق هذه الشراكة مرة أخرى.
وقد أدى ذلك، مع ارتفاع حدة الاستقطاب بين فريقي ٨ و١٤ آذار، إلى استخدام الاقتصاد مادة لتسجيل النقاط. فدفع التيار الوطني الحر، الحليف لحزب الله، بخطاب "الإصلاح والتغيير" ومكافحة الفساد، إلى المقدمة، إلى جانب خطاب بناء الدولة العادلة الذي رفعه الحزب نفسه. والواقع أن التيار "الإصلاحي" لم يكن يقصد من حربه على الفساد إلا إشراك التيار المسيحي بحصة من المغانم. أما حزب المقاومة، فرفع شعار بناء الدولة العادلة كرد على شعار بناء الدولة "حاف" الذي رفعه مناوئوه وقصدوا به الدولة المحتكرة للسلاح. وسرعان ما استغنى الجميع عن قفازاتهم، لينتقلوا إلى الصراع الطائفي العاري الذي تجلى في أبهى حلله مع اقتراح قانون انتخابي تختار وفقه كل طائفة نوابها من دون أي مشاركة من الطوائف الأخرى، وهو ما بات يعرف بقانون "اللقاء الأرثوذكسي".
ولعلها لم تكن الصدفة وحدها هي التي جعلت معركة موظفي القطاع العام لإقرار سلسلة رتبهم ورواتبهم تستعر في لحظة الطائفية العارية، وهذه المرة من قبل هيئة التنسيق النقابية التي كانت قد انشقت عن الاتحاد العمالي العام إثر تخاذل الأخير إبان معركة تصحيح الأجور. وقد ضحى التيار الوطني الحر في تلك المعركة بأحد وزرائه، شربل نحاس، بعد وعود بمزيد من الشراكة لتياره في حفل توزيع الريوع. فانتهى عهد الإصلاح والتغيير، قبل أن يبدأ، على مشهد بائس لأحد قيادييه يقود مجموعة من المناصرين ليرجموا بالحجارة العمال المياومين في شركة كهرباء لبنان، الذين كانوا يطالبون بحقهم في التثبيت.
وللمفارقة، فقد انفجرت سلسلة الرتب والرواتب في وجه حكومة غالبيتها من فريق ٨ آذار، ولا أثر للفريق الحريري فيها. فوجدت هيئة التنسيق نفسها محاصرة بين شرين: حكومة تستخف بمطالبها، ومعارضة ليس من شيمها مناصرة الحركات المطلبية. لكن ذلك لم يمنع المعلمين وموظفي القطاع العام من إعلان الإضراب المستمر منذ ١٩ شباط (فبراير)، والزحف إلى السرايا الحكومية في السابع والعشرين منه.
إلا أن للحكاية وجهها الآخر. فالتحرك النقابي الأخير يجري في لحظة أصاب الوهن فيها طرفي الاستقطاب اللبناني. وبدأت تظهر على السطح مظاهر الاعتراض على حشر اللبنانيين في خانة من اثنين. ومن ظواهر هذا الضيق، مسيرة بيضاء نظمتها مجموعة من الناشطين غداة اغتيال العميد وسام الحسن. مسيرة عبرت أساسا عن تبرم المكون المدني داخل ٨ و١٤ آذار، وتمكنت من جمع مئات الشباب بين صفوفها. تلت ذلك حماسة عالية لمعركة إقرار الزواج المدني في لبنان. ثمان وأربعون ساعة كانت كافية لانضمام أكثر من عشرة آلاف لبناني لصفحة فايسبوكية تدعو إلى الحق في ذاك النوع من الزواج على الأراضي اللبنانية، ناهيك بعشرات الحملات المدنية التي استلهمت أساليب شباب الربيع العربي بنسخته المصرية. وذلك قبل أن يأتي التحرك النقابي الحالي الذي نجح في حشد الآلاف للنزول إلى الشارع.
وإذا كان هذا التحرك قد استطاع استغلال لحظة الضعف السياسي، فإن مواجهته دفعت إلى الواجهة لاعباًمستتراً نادراً ما يكشف أوراقه فوق الطاولة. فقد نزلت الهيئات الاقتصادية بكامل قوتها لتمنع الحكومة من إحالة سلسلة الرتب والرواتب إلى مجلس النواب. وقد بدت تلك الهيئات شديدة البأس، إن من خلال قدرتها على شل قرارات الحكومة، أو من خلال فرضها قدرا من التعتيم الإعلامي على التحرك النقابي، أو من خلال إظهارها عنجهية وصلفا في التعاطي مع تحرك الأساتذة والموظفين. فبعد تصريح رئيس جمعية تجار بيروت، أن الهيئات الاقتصادية تطاع ولا تطيع، لم يجد رئيس الهيئات حرجا في التعبير عن انشغاله بالتحضير لزيارة وفد اجنبي، وانه ربما يبحث السلسة مع رئيس الحكومة خلال "الويك اند".
هكذا، وفيما تطالب هيئة التنسيق رئيس الحكومة بالوفاء بوعوده تجاه الموظفين، يجد نجيب ميقاتي نفسه أمام تحد آخر: الإثبات للهيئات الاقتصادية أنه لا يقل عن تيار المستقبل قدرة على تمثيل مصالحها، خصوصا أن رئيس تلك الهيئات، وهو وزير سابق، لا يمانع في تولّي سدة رئاسة الحكومة بنفسه. وهو، كسلفه، لا تعوزه الوسطية... في السياسة. أما التضامن النقابي، فهو أمام تحديين: إما أن تسقطه المفاعيل الطائفية للقاء الأرثوذكسي، وإما أن تتحول معركة الرتب والرواتب إلى مقدمة لإعادة صياغة نظام يتخبط في مياهه الآسنة. وهذا ما ينبغي تمسيته سنونوةً لربيع لبناني لا يزال موعده مؤجلاً.